فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهًا: الأول: قال الفراء: تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها، معناه يقول: أف أف.
الثاني: قال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الظفر.
يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به.
الثالث: قال بعضهم أف معناه قلة، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له، كقولهم: شيطان ليطان خبيث نبيث.
الرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأف الضجر.
الخامس: قال القتبي: أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم.
السادس: قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد، لأنه قال معنى قوله: {وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.
المسألة الرابعة:
قول القائل: لا تقل لفلان أف، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل.
واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس.
قال بعضهم: إنها دلالة لفظية، لأن أهل العرف إذا قالوا: لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيرًا ولا قطميرًا في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئًا.
والقول الثاني: أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف، والضرب أولى بالمنع من التأفيف.
وثانيها: أن يكون الحكم في محل السكوت مساويًا للحكم في محل الذكر، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل، وضربوا لهذا مثلًا وهو قوله عليه السلام: «من أعتق نصيبًا له من عبد قوم عليه الباقي» فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان.
وثالثها: أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات.
إذا عرفت هذا فنقول: المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى.
والدليل عليه: أن التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعًا من الضرب، وأيضًا المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلًا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكًا عظيمًا كان عدوًا له، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولًا في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلًا في الجملة، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.
النوع الثاني: من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
قال تعالى: {وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10].
فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى، فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثًا.
أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيدًا حسنًا، لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف، فما السبب في رعاية هذا الترتيب؟
قلنا: المراد من قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والمراد من قوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له.
النوع الثالث: قوله تعالى: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش.
والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمرًا بالقول الطيب، لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ، وعن عطاء أن يقال: هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك، وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم.
فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلمًا وكرمًا وأدبًا، فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءازَرَ} بالضم: {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضلال مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] فخاطبه بالاسم وهو إيذاء، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء؟
قلنا: إن قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين، فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديمًا لحق الله تعالى على حق الأبوين.
النوع الرابع: قوله: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} والمقصود منه المبالغة في التواضع، وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه.
فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟
قلنا: فيه وجهان: الأول: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال: حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد، واخفض لهما جناحك الذليل، أي المذلول.
والثاني: أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحًا وأثبت لذلك الجناح ضعفًا تكميلًا لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد:
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فأثبت للشمال يدًا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله: {مِنَ الرحمة} معناه: ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس: قوله: {وَقُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} وفيه مباحث:
البحث الأول:
قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: {رَّبّ ارحمهما} ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا.
ثم يقول: {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} [فصلت: 39].
البحث الثاني:
اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: رب ارحمهما.
والقول الثاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
البحث الثالث:
ظاهر الأمر للوجوب فقوله: {وَقُل رَّبّ ارحمهما} أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن الله تعالى قال: {واذكروا الله في أَيَّامٍ معدودات} [البقرة: 203] فهم يكررون في أدبار الصلوات.
ثم قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صالحين} والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك كان عالمًا بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.
ثم قال تعالى: {إِن تَكُونُواْ صالحين} أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين، أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم، والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جمادًا يزعمون أنه يشفع لهم، ولفظ الأواب على وزن فعال، وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم: قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وقضى ربُّك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه}
معناه وأمر ربك، قاله ابن عباس والحسن وقتادة. وكان ابن مسعود وأبيّ بن كعب يقرآن {ووصى ربك} قاله الضحاك، وكانت في المصحف: {ووصى ربك} لكن ألصق الكاتب الواو فصارت {وقضى ربك}.
{وبالوالدين أحسانًا} معناه ووصى بالوالدين إحسانًا، يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول.
{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} فيه وجهان:
أحدهما: يبلغن كبرك وكما عقلك.
الثاني: يبلغان كبرهما بالضعف والهرم.
{فلا تقل لهما أفٍّ} يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا، وتزيل عنهما القذى فلا تضجر، كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر.
وفي تأويل {أف} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح، قاله مقاتل.
الثاني: أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة، قاله الكلبي.
الثالث: أنها كلمة تدل على التبرم والضجر، خرجت مخرج الأصوات المحكية. والعرب أف وتف، فالأف وسخ الأظفار، والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير.
{وقل لهما قولًا كريمًا} فيه وجهان:
أحدهما: لينًا.
والآخر: حسنًا. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص.
قوله عز وجل: {... إنه كان للأوّابين غفورًا}
فيهم خمسة أقاويل:
أحدها: أنهم المحسنون، وهذا قول قتادة.
والثاني: أنهم الذين يصلّون بين المغرب والعشاء، وهذا قول ابن المنكدر يرفعه.
الثالث: هم الذي يصلون الضحى، وهذا قول عون العقيلي.
والرابع: أنه الراجع عن ذنبه الذي يتوب، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد.
والخامس: أنه الذي يتوب مرة بعد مرة، وكلما أذنب بادر بالتوبة وهذا قول سعيد بن المسيب. اهـ.